عبور الطرقية الروحية الإسلامية إلى بلاد شنقيط... الأستاذ الدكتور: محمد يحي ولد باباه

أحد, 10/04/2015 - 22:54

   يصطلح  في الدراسات الفكرية الإسلامية على تسمية إجرائية داخلية لنمط من أنماط العرفان الإسلامي- نشأ في القرن الخامس الهجري ( 11م)- بالتصوف التاريخي،  وقد تميز هذا النوع من التصوف بتجلياته التاريخية أو المادية نظرا لانحسار البعد التجريدي داخله على خلاف التصوف الفلسفي، الأمر الذي جعل بعض الباحثين يسميه التصوف الشعبي أو الإسلام الطرقي

 و ذا ما أردنا إبراز طبيعة هذا النمط من التصوف أو العرفان قلنا إنه إعلان التجربة الروحية الإسلامية عن نفسها في شكل طرق صوفية، لها أبعاد منظومية  تتمثل في ثلاثة عناصر أساسية، هي: السند، النظرية التربوية، ومنظومة الأذكار

     و هكذا وفي ضوء هذه المرحلة الشعبية للتصوف نشأت ثقافة روحية تراكمية تناقلتها الأجيال العربية الإسلامية، و أطعمتها من خصوصياتها المتنوعة ابتداء من المشرق العربي لتنتقل إلى المغرب العربي و تعبر إلى الفضاء الشنقيطي و إفريقيا جنوب الصحراء في القرن 10 هـ ( 16م)، وكان ذلك مع الحضور الأول للطريقة القادرية، التي بدأ انتشارها على يد الإمام عبد الكريم المغيلي و الشيخ سيد أعمر بن الشيخ سيد احمد البكاي، لتعرف هذه الطريقة انبعاثا و ازدهارا وانتشارا واسعا في القرن الثالث عشر هـ ( 19م ) في الفضاء الشنقيطي، على يد الإمام الشيخ سيد المختار الكنتي (ت1226 هـ /1811 م ) . 

  ثم دخلت بعد ذلك وفي نفس الفترة تقريبا، الطريقة الشاذلية الناصرية على يد الفقيه الطالب سيد أحمد بن محمد بن عمر المعروف بالتواتي ( ت 1138هـ 1725م ) الذي تتصل سلسلته السندية الشاذلية بسيدي أحمد بن عبد القادر الذي أخذها عن محمد بن ناصر الدرعي ( ت 1085هـ/ 1674م ) ، و يستنتج من أغلب المراجع التي تناولت تاريخ مدينة تيشيت أن التواتي هو أول من أدخل التراث الشاذلي إلى بلاد شنقيط حيث كان يملك مكتبة ضخمة شملت مؤلفات الإمام زروق و حكم ابن عطاء الله السكندري و أشعار البصيري و أذكار الجزولي و غير ذلك من آثار أئمة الشاذلية، ثم انتقلت الطريقة الشاذلية إلى مدينة ولاتة  و وادان و شنقيط .

    كما دخلت الطريقة الخضرية إلى الملإ الشنقيطي في القرن الثاني عشر الهجري (18م) على يد لمجيدري بن حبيب الله اليعقوبي (ت 1205هـ/1791م)، و تلاها دخول الطريقة  التجانية في حدود  1221 للهجرة  على يد الشيخ محمد الحافظ العلوي ( ت 1247هـ 1830م )، والطالب جدو بن الشيخ الشنقيطي، و محمد السالك بن الإمام الواداني و أخوه أحمد سالم بن الإمام وعثمان الفلاني الكناري الذي ينتمي إلى مدينة كيهيدي، و شمل انتشارها أقطارا كثيرة من إفريقيا جنوب الصحراء و ضفاف نهر السنغال.

     وتميزت الطريقة الفاضلية ذات الأصول القادرية، بحضور قوي في الفضاء الشنقيطي بفضل جهود الإمام الكبير الشيخ محمد فاضل بن مامينَّ ( ت 1286هـ 1869م) ،و هي التي ينطلق سندها من الشيخ عبد الرحمن السيوطي، كما سجل أبناء هذا الشيخ حضورا صوفيا لافتا من خلال نشرهم للإسلام في الربوع الإفريقية، مثل الشيخ سعدبوه، و الشيخ ماء العينين الذي تصل مؤلفاته إلى حوالي مائة كتابو باقي أبناء هذا الشيخ الذي أسس الفاضلية كطريقة صوفية تمثل بعدا أساسيا من النهج القادري في هذه الأقطار،  ثم سجلت الطريقة الصديقية ذات الأصول القادرية أيضا، حضورها في بلاد شنقيط أثناء القرن الثالث عشر الهجري( 19م)، وكان ذلك على يد الشيخ محمد الصعيدي، الذي أخذها عنه الشيخ محمد عبد الحي بن محمد بن سيد احمد المجلسي ، بعد ذلك.   وفي القرن الثالث عشر هـ (19م)، انتشرت الطريقة الغظفية ذات الأصول الشاذلية، و قد أسسها ونشرها الشيخ محمد الأغظف الداؤودي( ت 1277هـ 1860م)، في الملإ الشنقيطي، وكان لحضورها مساهمات قوية في نشر تعاليم وعلوم الشيخ أبي الحسن الشاذلي في هذه الربوع، كما عرفت ازدهارا كبيرا في حياة الإمام و العلامة الشيخ سيد المختار بن الطالب أعمر بن نوح البساتي، والشيخ الغزواني.  

 و بذلك إذن تتكشف معالم الخارطة العامة للحضور الطرقي ببلاد شنقيط، و هي خارطة تأطرت بثلاثية البعد العقــدي الأشعري والبعد الفقهي المالكي والبعد الصوفي الجنيدي، وهي الثلاثية التي جعلت الحياة الروحية الإسلامية في الفضاء الشنقيطي تتميز بممارسة تصوف شبه فقهي يعتمد الرقائق و الأخلاق  ويستبعد تصوف الحقائق و الفناء المفتوح.