الشيخ سيدي أحمد التجاني رضي الله عنه الفقيه و المحدث

ثلاثاء, 09/01/2015 - 00:50

هذه المحاضرة ألقيت من طرف محمد المهدي الكنسوسي بمناسبة اللقاء الدولي المنعقد بفاس حول الطريقة التجانية أيام 14 و 15 و16 مايو 2014 تظهر الجانب العلمي و الشرعي عند الشيخ سيدي أحمد التجاني

بسم الله الرحمن الرحيم و به نستعين و الصلاة و السلام على سيدنا محمد أشرف المرسلين و على آله و صحابته أجمعين. و رضي الله عن شيخنا حجة الله و تاج العارفين أبي العباس مولانا احمد التجاني.

أيها السادة الأماجد علماء الأمة المحمدية و حاملي لواء الهداية الأحمدية، الآخذين بأوثق الحبال في الدلالة على الله، الداعين إلى توحيد الكلمة و المتمسكين بكلمة التوحيد لا إله إلا الله، السلام عليكم و رحمة الله.

      لقد أكرمنا الله تعالى باللقاء من جديد بهذه الحضرة الفاسية تحت الرعاية السامية لأمير المؤمنين جلالة الملك محمد السادس أعزه الله الذي يولي رعاية خاصة للمنتسبين للطريقة التجانية جريا على عادة أسلافه الميامين، و بدعوة من شيخ طريقتنا الشريف سيدي محمد الكبير التجاني جازاه الله كل خير، لكي نتجاذب أطراف الحديث عن المقاصد التي تجمعنا و النهج النير الذي يوحدنا وهو الالتفاف حول السلوك القويم الذي بته فينا شيخنا التجاني رضي الله عنه و حمله من بعده خلفائه من المقدمين الهادين المهديين إلى أن وصلنا غضا طريا، و صار أمانة و إرثا في أعناقنا لكي نبلغه بدورنا للأجيال التي ستخلفنا. و لن أفشيكم سرا إذا قلت أن التربية التجانية منهاج علمي مبني على الكتاب و السنة  ونبراس لسائر المسلمين في تدبير شؤونهم الدينية و الدنيوية.

       فأحببت أن يكون كلامي عن مولانا الشيخ التجاني رضي الله عنه الفقيه  المحدث و حامل لواء التسليك على قدم جده المصطفى صلى الله عليه و سلم. و حلية العلم ضرورية لكل من أكرمه الله بالتصدر لهداية الخلق. و هذا من موجبات السلوك عند كافة المنتسبين للطرق الصوفية، علما منهم أن المريد يبتدئ طريقه حيث انتهى الفقيه. ناهيك عن العارفين و الأقطاب الذين تولى المصطفى صلى الله عليه و سلم تربيتهم رحمة من الله بالأمة المحمدية و مصداقا لقوله تعالى: ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم و لا هم يحزنون. الذين آمنوا و كانوا يتقون. لهم البشرى في الحياة الدنيا و في الآخرة. لا تبديل لكلمات الله. فكانت العناية و التربية المحمدية هي البشرى التي وعد الله بها في الدنيا عباده المخلصين.  

      و قد ابتلى الله تعالى كبار العارفين بالإنكار عليهم من طرف أناس حجبوا عن منن المولى سبحانه التي يختص بها من يشاء من عباده. فما وهنوا و لا ضعفوا، بل أظهروا للناس أن مقاصدهم على هدى من الله ملتزمة بالكتاب و السنة. و قد تنبه شيخنا رضي الله عنه لهذا الأمر فقال: إذا سمعتم عني شيئا، فزنوه بميزان الشرع. فإن وافق فاعملوا به و إن خالف فاتركوه، كما ورد في مقدمة كتاب الإفادة الأحمدية للعارف بالله سيدي الطيب السفياني رضي الله عنه. لأن كل ما خالف الشريعة فهو بريء منه و لا صلة له بهديه. فإنه إما كذب عليه من طرف أناس يريدون تشويه طريقته أو قاصرين من أتباعه لا يدركون حقيقة مقاصده أو ناقل لكلامه متصرف فيه.

        و سنعتمد على سيرة شيخنا لإظهار أفاء الله به عليه من العلم لاسيما في الفقه و الحديث. فيجب إذن أن ننطلق من بداية أمره رضي الله عنه، مند أن كان طالب علم متميزا عن أقرانه من أهل قريته.  وقد تصدى كثيرا        من المؤرخين لسيرته السنية، لكن ما قيل عنه يعتبر نقطة من بحر لا ساحل له.

       وأصح و أصدق ما يمكن اعتماده لتجديد النظر في سيرته المباركة و إغنائها، هو الرجوع إلى  ما يعرف بين علماء طريقتنا بالمطالب. و هي عبارة عن أوراق كتب فيها مولانا الشيخ كل ما يطلب من الله قضائه له و تسخيره. و هذه المطالب تعد بالمئات مجموعة في أسفار عند أهل عين ماضي من الشرفاء و غيرهم. و لو درست هذه المطالب بالشكل الواجب لأدركنا كثيرا من الأمور المهمة المتعلقة بحياة الشيخ منذ بداية شأنه. و قد استمر في كتابة هذه المطالب الموجهة للمولى سبحانه إلى أن أدرك العشرين من عمره، فصار بعد هذا السن يوجه مطالبه إلى جده المصطفى صلى الله عليه و سلم. و هذا الصنف من المطالب أكثر شهرة لتناولها من طرف أهل السير.

      قال سيدي أحمد العبدلاوي رحمه الله تزكية لما أشرت إليه أن سيدنا الشيخ رضي الله عنه قبل حلوله مرتبة القطبانية و تولي مولانا رسول الله صلى الله عليه و سلم تربيته، كان يكتب مطالبه من الله تعالى و من النبي صلى الله عليه و سلم في صحائف كراريس و يضعها بين يدي النبي صلى الله عليه و سلم. و لما أنعم الله عليه بالمنة التي كان يصبوا إليها قال له رسول الله صلى الله عليه و سلم: اترك عنك جميع المطالب، و ضمن له بلوغ جميع مقاصده و نيل ما هو أعلى و أشرف. ثم قال الشريف العبدلاوي: و قد وقفت على كراريس عديدة فيها من مطالب سيدنا رضي الله عنه من الله تعالى و من النبي صلى الله عليه و سلم مما لا يقدر قدره.

      و أول ما ينبغي الإشارة إليه أن الشيخ رضي الله عنه سماه أبوه أحمد تيمنا بجده الأعلى سيدي أحمد بن سالم رحمه الله الذي تناقلت الركبان خبر علمه و تقواه. قال عنه في جواهر المعاني: إنه عالم كبير متشدد في أتباع السنة معرض عن الدنيا كثير الاختلاء. ذكر العارف بالله سيدي العربي بن السائح رضي الله عنه في إحدى طرره على البغية أن سيدي أحمد بن سالم من أصدقاء العلامة الرحالة أبي سالم العياشي وذكره في بعض رسائله التي ينصح فيها بعض تلامذته نوى أداء فريضة الحج، فدله على الطريق الواجب أتباعه و عرفه أصحابه و معارفه الذين يمكن الاعتماد عليهم في الطريق منهم جد شيخنا سيدي أحمد بن سالم.

كما أن والد الشيخ رضي الله عنه، سيدي محمد بن المختار، كان عالما ورعا متبعا للسنة ذاكرا مدرسا، و أمه رضي الله عنها السيدة عائشة بنت السيد الجليل ذي البركة الغزيرة و الأنوار سيدي محمد السنوسي . قال عنها صاحب جواهر المعاني أنها سيدة فاضلة، طيبة مطهرة كثيرة الأذكار و الصلاة على النبي المختار مواظبة عليها آناء الليل و أطراف النهار.

      ففي وسط علمي و روحاني رأى الشيخ رضي الله عنه النور و ترعرع. فكان والده يشرف على تربيته إشرافا وثيقا، عسى الله أن يبعث فيه روح جده سيدي أحمد بنسالم.  و ما بلغ الخامسة من عمره حتى سلمه والده لشيخ القرية سيدي محمد بن حمو من أجل حفظ القرآن الكريم برواية ورش. فيسر الله له ذلك و أتم الحفظ في سنتين. و كان الفقيه بنحمو يحدث تلامذته عن شيخه عيسى بوعكاز ، و كان من كبار العارفين، و يكثر الثناء عليه و يقول لهم أنه كان مفتوحا عليه يقرأ سلكة من القرآن في كل ركعة. و يسمى هذا المقام عند أهله: لباس حلة القرآن.

      فوقر هذا الكلام في ذهن الطفل، فصار يطلب من الله تعالى أن يبلغه هذا المقام رغم صغر سنه. و كان هذا من أول ما سجله الشيخ رضي الله عنه في مطالبه الموجهة للمولى سبحانه. و في سن الثانية عشرة من عمره وظف لنفسه وردا لا يقل عن 20 حزب من القرآن في اليوم. و لكي تكون معرفته بالقرآن أوثق، حفظ  عن ظهر قلب كتابا حول أسباب النزول و يستظهره مع كل سلكة من القرآن.

      و مما سمعه كذلك من السيدة والدته أن أحد أسلافها كان يرى النبي صلى الله عليه و سلم في اليقظة بفضل صيغة من الصلاة على النبي صلى الله عليه و سلم يتلو منها في خلوته 125000. فتشوفت نفس الطفل سيدي أحمد لهذا أيضا. فاتخذ من هذه الصلاة وردا و ربطه بالمواظبة على قراءة السيرة النبوية، فحفظ كتاب عيون الأثر لابن سيد الناس و اتخذه كذلك وردا، حتى صار أقرانه يلقبونه بابن سيد الناس. و هذا هو تفسير الإشارة الواردة في كتاب روض المحب الفاني حيث قال العلامة بلمشري رحمه الله أن الشيخ رضي الله عنه من ذرية ابن سيد الناس. فغضب الشيخ لذلك غضبا شديدا و شكاه لله تعالى في أحد مطالبه التي لازالت محفوظة إلى اليوم.

       و من المتون التي حفظها كذلك مختصر الخليل و ألفية ابن مالك و مختصر البخاري و موطأ مالك. كما درس مقدمة ابن رشد و رسالة ابن أبي زيد القيرواني و الأخضري. أما الحديث و التفسير فأخذهما عن والده بدون ارتياب. و كان رضي الله عنه يتحرق شوقا لحفظ كتب الحديث الستة، لكن الأحداث المهولة التي نزلت بعين ماضي بسبب الطاعون سنة 1166عصفت ببرنامجه التعليمي حيث فقد في وقت وجيز والديه و إخوته و شيخه سيدي المبروك بوعافية و أقرانه و كثيرا من أقاربه.

       و رغم كل هذه الأهوال التي قد تفقد شابا في مقتبل العمر صوابه، ألهمه الله تعالى التمادي في تحصيل العلم ببلده حتى صار من الشيوخ المبرزين على الرغم من حداثة سنه، فتصدّر للتدريس و الفتوى عوضا عن والده الراحل. لكن همته العالية جعلته يصبوا إلى التبحر في العلوم كما هو شأن الرجال من آل بيت رسول الله، فغادر قريته سنة 1171متجها نحو مدينة فاس.

       و وافق سفر الشيخ رضي الله عنه لفاس في تلك السنة حدثا هاما عرفه المغرب، هو تولي سيدي محمد بن عبد الله الملك. فاستبشر أهل المغرب بأن أغلق باب الفتن التي دامت زمنا طويلا و حل محله و الاستقرار و الأمن على المال و الأنفس.

 

قال صاحب منية المريد رحمه الله توثيقا لهذه الحقبة:

 

ثم ارتقت همته العلية       إلى اتباع السادة الصوفية

فجال في طــلب أهـــل الله       عادة كل عابـــــــــــد أواه

و عمره إحدى و عشرون سنة        لله در أمـــه ما أحــــــــسنه

 

      و أما سبب توجهه لفاس دون غيرها من حواضر الغرب الإسلامي، فلاعتبار منطقي، لأن الحضرة الفاسية  التي شادها رجل من آل بيت رسول الله صلى الله عليه و سلم و شهد على نفسه أنه بناها ليعبد فيها الله تعالى و يتلى كتابه و تقام بها الحدود وفق  ما شرعه الله و نبيه. كما سأل الله أن يتفجر العلم من صدور أهلها كما تتفجر عيون الماء من أرضها. فاستجاب الله لدعاء المولى إدريس و قصدها العلماء و الطلبة من كل فج عميق، حتى أنها صارت ثالثة قواعد الدين بالغرب الإسلامي مع قرطبة و القيروان. و لما قضى الله بأفول نجم الشريعة المحمدية من الأندلس و تقلص إشعاع القيروان بقيت فاس حاملة لواء المذهب المالكي و العقيدة الأشعرية و التصوف

      و ما أشار إليه الناظم ، موافق لقول صاحب جواهر المعاني حول هذه الرحلة حيث أنه رضي الله عنه ارتحل إلى فاس و أحوازها، سمع فيها شيئا من الحديث و بقي يجول بقصد الزيارة و البحث عن أهل الخير. ثم ما فتئ أن غادر المغرب بإشارة من رجل من أهل الكشف، فارتحل لتلمسان و أقام بها لتدريس علم الحديث و التفسير.

      و في رسالة وجهها الشيخ رضي الله عنه لرفيقه في التحصيل سيدي محمد بن عبد الله الجيلاني نزيل وهران، المذكورة في كشف الحجاب، أشار إلى بعض شيوخه بفاس و ذكر العلوم التي أخذ عنهم وهي علم القراءات على الشيخ الدقاق و أسرار الحروف على الشيخ علي الجمل و صغرى السنوسي على الشيخ السجلماسي.

      و أضاف سيدي العربي بن السائح في بعض حواشيه على البغية بأن الشيخ كان يحضر دروس القاضي محمد بن الطاهر الهواري المتوفى بفاس سنة 1220،  و هو رجل متبحر في الحديث و اللغة، و من كبار شيوخ السلطان مولاي سليمان. (ذكره عبد المجيد بوكاري في معلمة المغرب و محمد بن عبد الكبير الكتاني في روض الآس في بيوتات أهل فاس). كما أنه ارتحل إلى جبل العلم حيث يرقد القطب مولانا عبد السلام ابن مشيش، فأخذ القراءة بالتجويد عن رجل متقن اشتهر هنالك.

النقطة الثانية من قول صاحب المنية تتعلق بوجوب طلب الشيخ المرشد و لو بالسفر إليه. فإن كان هذا البحث واجبا من طريق النظر، فهو غير واجب من طريق الحكم الشرعي. و هذا ما أقره مولانا الشيخ رضي الله عنه في رسالة بليغة ذكرها صاحب الجيش الكفيل، حيث قال:

 ليس في نصوص الشرع إلا وجوب توفية القيام بحقوق الله تعالى ظاهرا و باطنا على كل فرد من جميع العباد، و لا عذر لأحد في ذلك من طريق الشرع. و لا عذر لأحد في غلبة الهوى عليه و عجزه عن مقاومة نفسه.

      فليس في الشرع إلا وجوب ذلك، و لا شيخ يجب طلبه إلا شيخ التعليم الذي يعلم كيفية الأمور الشرعية التي يطلب فعلها من العبد أمرا و نهيا و فعلا و تركا. فهذا الشيخ يجب طلبه على كل جاهل لا يسع أحدا تركه، و ما وراء ذلك من المشايخ يجب طلبه من طريق النظر بمنزلة المريض الذي أعضلته العلة و عجز عن الدواء من كل جهة و انعدمت الصحة في حقه. فنقول له:إن شاء البقاء على هذا المرض بقي كذلك و إن طلب الخروج إلى كمال الصحة، قلنا له يجب عليك طلب الطبيب الماهر الذي له معرفة بالعلة و الدواء المزيل له و كيفية تناوله كما و كيفا و وقتا و حالا...هـ. و هذا كلام فصل أجاب عنه الشيخ رضي الله عنه في ما يتعلق بهذه المسألة الخلافية.

      و أما النقطة الثالثة الواردة في المنظومة: لله ذر أمه... فهو إشارة لما سبق الحديث عنه من أن حب الصلاة عن النبي صلى الله عليه و سلم و الإكثار منها، و رثه شيخنا رضي الله عنه من أمه الذاكرة، و هي من عرفه مسألة رؤية النبي صلى الله عليه و سلم يقظة. أما والده فكان يثنيه عن هذا التوجه لصغر سنه و لما يتطلب ذلك منه من خلوة و اعتزال عن الناس. إلا أن الله تعالى بالغ أمره، و كان قضائه مقضيا.

      و من هنا تنطلق الحقبة الثانية من حياة الشيخ رضي الله عنه التي قضى منها عدة سنين ببلد الأبيض بالصحراء، ثم  استقر بتلمسان و عرف بها فقيها و محدثا. كما أنه اشتغل في هذه المرحلة باستنساخ كثير من الكتب، لا زال بعضها بين أيدي الناس إلى اليوم، إلى أن كانت سنة 1186 حيث قرر أداء فريضة الحج، فسافر برا نحو المشرق.

       و قد ذكر من تعرض لسيرة الشيخ رضي الله عنه أنه توقف بزواوا، فأخذ الطريقة الخلوتية عن الشيخ الأزهري، و هو الذي عرفه بالشيخ الكردي. إلا أن في هذا نظر، لأن الشيخ رضي الله عنه كانت له معرفة بالخلوتية لما كان بفاس، و كان شيخ هذه الطائفة في ذلك الوقت مولاي أحمد الصقلي الذي يعرفه شيخنا معرفة جيدة. 

   ثم انتقل رضي الله عنه إلى تونس فأقام بها مدة وشرع في تدريس الحكم العطائية بجامع الزيتونة. فكان درسه في غاية النفاسة يحضره الطلبة و العلماء على حد سواء. فشاع خبره و طلب منه الباي الإقامة عنده مع الاعتناء به. لكن الشيخ رضي الله عنه فضل الرحيل و ركب بحرا نحو الإسكندرية. ثم انتقل إلى القاهرة حيث كان اتصاله بالشيخ محمود الكردي الذي أجازه في مروياته العلمية و اجازه في الطريقة الخلوتية. و الذي يهمنا هنا هو الإجازة العلمية المشتملة على المرويات الحديثية كصحيح الإمام البخاري التي كان الشيخ رضي الله عنه يجيز بها من استجازه.

       و ممن تشرف من العلماء المتأخرين بسند الشيخ رضي الله عنه العلامة الكبير المقدم السيد محمد الحافظ المصري رحمه الله و المحدث الراحل المقدم الحاج إدريس العراقي رحمه الله الذين يرويان صحيح الإمام البخاري عن الشيخ عبد الحي الكتاني و العلامة المقدم محمد الصادق الرياحي رحم الله الجميع عن المحدث الشيخ الطيب النيفر التونسي عن الشيخ الماحي الدرفوري السوداني المتوفى بالمدينة المنورة سنة 1277 عن مولانا الشيخ التجاني رضي الله عنه عن الشيخ محمود الكردي بسنده المعروف.

      و قد كانت في خزانة شيخنا نسخة نفيسة من صحيح البخاري بخط سيدي الحاج علي حرازم الجميل. و هذه النسخة منقولة من النسخة الشيخة التي وضعها العلامة سيدي عبد القادر الفاسي نقلا عن نسخة أبي علي الصدفي و برواية ابن سعادة التي أجمع أهل المغرب على تميزها.

      و أما الإجازة الثانية في صحيح البخاري التي حصل عليها مولانا الشيخ في هذه الرحلة الحجازية، فكانت من طريق العارف بالله سيدي محمد بن عبد الكريم السمان المدني. فمن ضمن ما جاء فيها قوله:... فقد أجزت الأخ في الله سيدي أحمد و سيدي و ولدي أبا العباس في سائر الأسماء و المسميات و ما يجوز لي و عني روايته...الخ. و هي إجازة طويلة موجودة متداولة بين أصحاب الشيخ.

      و لما قفل رضي الله عنه من الحج استقر بتلمسان مدرسا و مفتيا و متعبدا. إلا أن شهرته زادت انتشارا و صار إعطائه الإذن في الطريقة الخلوتية مناسبة جرت عليه زوارا كثرا يحبون التبرك به و الاقتداء بهديه. و منهم من يبعث له بالمسائل العويصة لكي يفتي فيها، و سنذكر بعضها فيما بعد . و ممن تعرف عليهم في هذه الحقبة كبار تلامذته سيدي محمد بلمشري السباعي سنة 1189 و سيدي الحاج علي حرازم سنة 1191 و سيدي محمود التونسي و سيدي محمد بلعربي الدمراوي و غيرهم كثير.

      و كان رضي الله عنه يسافر إلى منطقة توات بين الفينة و الأخرى من أجل لقاء بعض العارفين الذين يتفرس فيهم القدرة على مساعدته من أجل تحيق مبتغاه و هو رؤية النبي صلى الله عليه و سلم، فلم يكن يذخر جهدا من أجل ذلك. و في خلال بعض رحلاته التقى به بن عبد السلام الناصري الرحالة المحدث الكبير، فسجل في رحلته هذه الإرتسامات عن الشيخ رضي الله عنه. قال: ورد علينا هنا بتوات رجل ينتمي للعلم و الصلاح من شرفاء عين ماضي اسمه سيدي أحمد التيجيني، رفض سكنى بلده و انقطاعه للجولان شرقا و غربا . و قدومه الآن كان من تلمسان مزعجا من بعض أمراء الترك بها. زعم أنه أخذ عن الشيخ السمان المدني و أجازه و أخذ العهد عن الشيخ محمود الكردي المصري. و تذاكرنا معه في مسائل حتى انجر الكلام لعدم تحسين الظن بمتربطة الزمان.

      و من تشديده لما حضرته صلاة العصر، رام أتباعه من أهل البلد الصلاة خلفه، فمنعهم معتلا بأنه لم ينو إقامة تقطع حكم السفر معتمدا على كراهة اقتداء المقيم بالمسافر...وقد أثبت بن عبد السلام الناصري أن هذا اللقاء كان في جمادى 1196.

      و في هذه السنة حصل الفتح الكبير للشيخ رضي الله عنه، فتحققت أمانيه و دخل في تربية النبي صلى الله عليه و سلم. فكان من أول ما أمره به رسول الله صلى الله عليه و سلم إخراج الكتب من بيته. و يعني بالكتب كتب المشايخ الذين اعتمدوا الوسائل الرياضية من أجل الوصول إلى الفتح، و لم يحتفظ إلا بصحيح البخاري و تذكرة الأنطاكي في الطب. و ذلك لأن النبي صلى الله عليه و سلم ضمن له إدراك جميع العلوم المحمدية إفاضة منه عليه.

      و مما يزكي هذا، قول العلامة بلمشري في الجامع، أن الشيخ رضي الله عنه استحضر يوما كتابا في ذهنه من أوله إلى آخره بأبوابه و فصوله و مسائله، و قال له: ذكرت فيه بعض مغالط الفقهاء من أهل العلم الظاهر و أهل علم الكلام و قال له: سميته كتاب النص و الفتوى فيما عمت به البلوى. و أضاف رضي الله عنه قائلا: إن كل ما أنطق به من إملائه صلى الله عليه و سلم. فأنعم بها من منقبة جليلة.     

      وقد آن الأوان كي نشير إلى  عناوين بعض المسائل المعروضة عليه رضي الله عنه كي يبدي فيها رأيه. و قد تلقاها من كبار علماء زمانه لكون جلها مسائل خلافية قديمة لم تحسم.

 ذكر أبو عبد الله أكنسوس في الجواب المسكت: كنت أسمع بعض أشياخي الصالحين الذين أقرء عليهم ( يقصد العلامة سيدي محمد بن عمرو الزروالي ) يقول المرة بعد المرة، إذا عنت عويصة من أقوال المفسرين أو المحدثين: قال الشيخ العارف بالله تعالى سيدي أحمد التجاني، و يبالغ في تعظيم ذكره. فسألت الناس: من هذا الذي يعظمه الشيخ هذا التعظيم كلما ذكره؟ فقيل لي: ولي كبير الشأن متبحر في جميع العلوم، لا يسأل عن شيء من العلوم إلا أجاب بصريح الحق و الصواب بلا روية ولا مراجعة كتاب، فيكتب السائل جوابه من إملائه و حفظه كأنه يسرده من أصل صحيح. فكنت أتعجب من ذلك. و قد لقيناه و الحمد لله لقاء التبرك و زرناه و دعا لنا بالخير و سمعنا منه ما نفتخر به و نتشرف. و كان هذا اللقاء سنة 1229.

       فمما تصدى له رضي الله عنه للإجابة عنه مسائل تتعلق برؤية الحق سبحانه، هل هي ممكنة في الدنيا، و محبة الحق للخلق التي تشمل البر و الفاجر، و كذلك تفسيره لآيات قرآنية فيها رجاء عظيم للتائبين و هل التوبة تجب كل الآثام السابقة، و جواب حول أقسام الوحي أو معنى المعية التي وردت في القرآن، و الآيات التي تصرف عن ظواهرها في حق صفوة الله من النبيئين و المرسلين.

      و قد تصدى رضي الله عنه كذلك لشرح الأحاديث القدسية و الأحاديث النبوية المشتملة على ألفاظ من المتشابه كالضحك و القدم و الدنو و التدلي إلى غير ذلك مما خاض فيه المتكلمون منذ القرون الأولى للبعثة المحمدية، فأجاب عنها رضي الله عنه بأفصح بيان لا يعرض عنه إلا محجوب.

      و قد تصدى، رضي الله عنه، كذلك لشرح كلام العارفين و شطحات الأولياء، وأتى بشروح نفيسة تنزههم عن التهم التي ألصقها بهم بعض المنكرين، كقول أبي يزيد البسطامي: خضنا بحرا وقف الأنبياء بساحله أو  كالأبيات الثلاثة المنسوبة للإمام الجنيد: تطهر بماء الغيب إن كنت ذا سر أو القولة المنسوبة لأبي حامد الغزالي: ليس في الإمكان أبدع مما كان. فتجد جوابه رضي الله عنه في غاية الوضوح حتى تضن أنه كلاما بديهيا في متناول الجميع. و هذا مما أفاء الله عليه من الفصاحة التي تميز بها العارفون من آل بيت رسول الله صلى الله عليه و سلم.

       و مما يشهد لعلمه الواسع رضي الله عنه التزامه بالمذهب المالكي و مقتضياته و أحكامه في العبادات و المعاملات لكونه المذهب السائد في الغرب الإسلامي منذ قرون، و أن شفقته على مريديه و رأفته بهم جعلته يفتي لهم حسب مقتضيات المذهب الذي يعملون به، لكي يبقى فقهه جاريا في الأحكام. فنجده يستشهد بقول مالك في بطلان طلاق المكره. و كذلك استشهاده بالمختصر الخليلي في سقوط النفقة على الزوجة الناشز و تشدده في عدم حلية إعطاء الصدقات للشرفاء آل البيت لأن مقامهم عند الله عظيم و لا يحل لهم اخذ أوساخ الناس. و الأمثلة كثيرة لا يمكننا إحصائها أو تقصيها.     

      كما يستشهد بأقوال أئمة مذاهب أهل السنة في ما يتعلق بالاشتغال بعلم الكلام المرادف للجدل العقيم. فقد سئل رضي الله عنه عن التوحيد، فأجاب: هو ما دخل به الرجل الإسلام. و قال الشافعي رضي الله عنه: من خاض في علم الكلام، فكأنه دخل البحر في هيجانه. و قال أبو حنيفة: قاتل الله عمرو بن عبيد، فإنه فتح للناس باب الخوض في الكلام فيما لا يعنيهم. فعليكم بترك الجدال، فإنه لا يجادل في آيات الله إلا الكافرون...الخ. كما قال رضي الله عنه: زبدة الأعمال الشرعية، و غاية ارتفاعها هو التعلق بالله تعالى بلا انفصام و لا تزلزل، و لو دهمته دهمات الفتن الصعبة التي لا ينجوا منها إلا بانخلاع يده من سوى الله تعالى و انفصامه عنه. فهذا هو التفقه في الدين.

      و مما قاله كذلك رضي الله عنه حول المعجزة الإلهية الخارجة عن طوق البشر، و لم تكن معارضتها ممكنة بوجه من الوجوه أو تبريرها بالعقل، فإن أئمة الحق و الهدى من أهل السنة كالإمام الأشعري و القاضي الأستاذ القطب سيدي محمد السنوسي و غيرهم...كلهم واقفون مع النقل الصحيح و لم يقل واحد منهم بإبطال الدليل النقلي، بل لا يقولون بصحة الدليل العقلي في غير المحسوسات، إلا إذا وجدوا له ما يعضده من النص.

       و من أراد أن يتوسع في كلام الشيخ رضي الله عنه فيما يجب الوقوف عنده في هذا المضمار، فليراجع مقالته النفيسة حول قواعد العقل المسماة: إزالة اللبس و الإيهام فيما خفا عن علماء الكلام الواردة في آخر كتاب الجامع.

      و لابد قبل أن نختم حديثنا أن نشير إلى كتاب نفيس حول مناسك الحج على مذهب الإمام مالك و عمل العارفين ألفه أحد كبار علماء المغرب الفقيه البويعقوبي التازي المتوفى سنة 1196. و عليه حاشية جامعة مانعة وضعها الخليفة الأعظم سيدي الحاج علي حرازم رضي الله عنه بإشارة من مولانا الشيخ رضي الله عنه متضمنة بعض تقاريره. و هذه الحاشية أطول من المتن تظهر بجلاء أن الخليفة رضي الله عنه كان رجلا فقيها عالما متمكنا محيطا بدقائق الفقه مع معرفة واسعة     

       و كل ما يمكن القول في حقه رضي الله عنه أنه رجل سعى منذ طفولته أن يتعرف على رسول الله صلى الله عليه و سلم وبلغ قصارى جهده في ذلك والتزم بالصلاة على رسول الله لكي يعرفه حق معرفته و يكون تحت نظره و خادما لسنته مؤتمرا بأوامره واقفا عند نهيه. فاستجاب الله له وأكرمه ببلوغ مقام لو اطلع عليه كبار العارفين لقالوا: ربنا ما أعطيتنا شيئا. و أقبل عليه العلماء المنتسبين لكل الأسر العلمية من أهل فاس و غيرهم طالبين منه أن يسلكهم لما فيه خير الدارين أمثال

سيدي إبراهيم الرياحي

العلامة المفتي حامل لواء المعارف بالديار التونسية.

مولاي محمد بن أبي النصر العلوي

سيدي الشاهد الوزاني

الحاج عبد الوهاب بلحمر

سيدي هاشم بنمعزوز

سيدي عمر بن القطب سيدي عبد العزيز الدباغ

سيدي محمد بن عبد الواحد بناني المصري

الداودي التلمساني

الذي قال عنه في البغية أنه من خيرة المدرسين بالقرويين و من كبار علماء فاس.

سيدي محمد الحفيان الشرقاوي

العلامة الأستاذ المقرئ المشارك الفاضل سليل الأسرة الشرقاوية العمرية

القاضي أحمد الدبيزة العلوي

قاضي مكناس العلامة الجامع بين الأصول و الفروع

الماحي الدار فوري السوداني

 من أكبر علماء السودان. أتى إلى فاس مشيا على الأقدام، فاخذ عن الشيخ الإذن في الطريقة و إجازة علمية

القاضي محمد الأجباري القصري

محمد بن قاسم بصري

القاضي عباس بن كيران

الذي يروي عن الشيخ رضي الله عنه قوله: اللطف لطفان. لطف عام و لطف خاص، و هذا خص الله به أصحابنا مصداقا لقوله تعالى: إن ربي لطيف لما يشاء. صدق الله العظيم و السلام عليكم و رحمة الله.