قـراءة في قصيـدة الهمزيـة

ثلاثاء, 08/25/2015 - 14:25

لقد كان لهمزية البوصيري رضي الله عنه الأثر البارز في كافّة المجتمعات الإسلاميّة منذ بزوغها . وتعدّ هذه ملحمةً رائعة مستفيضة في مديح الرّسول صلى الله عليه وسلّم ، إذ تميّزت بميزات جعلتها تحرز قصب السّبق في ديوان المديح ، وتسجَّل في ذروة المجد ، وتلحقها بشهاب ودرر سيّدنا حسّان ، وسيّدنا عبد الله بن رواحة ، وكعب بن زهير رضي الله عنهم ، وكافّة فرسان البيان الّذين شمّروا عن ساعد الجدّ ، وساقتهم عاطفتهم إلى ميدان الذبّ عن حمى المصطفى صلى الله عليه وسلّم ، والدعوة إلى دينه وسنّته ، ووجوب طاعته وتمجيده وتوقيره بدافع حبّه والتعلّق به تعلق المحتاج إلى سبب الحياة ، وسبب السّعادة ، وسبب الرّحمة كلّها باعتباره الطّريق الوحيد إلى الله والباب الفريد إلى رِحَابِه . قال الشاعر:

وهو باب الله أيّ امرئ        وافاه من غيره لا يدخل

ومِنْ مميّزات هذه المطوّلة ، التي خلّدت في مصافّ الدّرر من القصائد ، طول نفَسها ، وسموّ لغتها ، وإشراق ديباجتها ، وشمول معانيها المديح ، واستعراض صفحات مَجيدة من السّيرة العطرة ، إذ خصّصها صاحبها ـ مِن خلال الوصف ـ لِذِكر المآثر العظيمة ، والبطولات الرّائعة ، واستقراء الشمائل النبويّة الّتي لم يسجّل التاريخ أحسن ولا أروع منها ، فكانت متناً متيناً ، هديّة إلى حبيبنا ، وقربة إلى بارئنا ، وسيفاً صارماً في نحور المشركين ، والمنافقين ، ومن عاند وكابر من أهل الكتاب والطوائف .
وطبيعي ، كأيّ عمل خالد ، كانت هذه القصيدة جامعة لكثير من الأغراض والأفكار ، ذلك لتعدّد مواضيعها ، وتشعب فنون القول فيها . أقامها صاحبها على محور المديح النبويّ ، واستقى أفكارها من السيرة النبوية المشرّفة ، فأورد الأخبار المتواترة الصحيحة ، إذ ليس من طبيعة المحبّ الصّادق الإتيان بالمشكوك فيه ، أو ما ضعف القطع بصحته ، ثم أضاف إليها مسحته البيانية المشرقة بالوصف البديع ، والإطناب العذب المستملح ، والمدح الرّائع في قالب الكلام الجميل بعيداً عن الحشو والمداراة ، نائياً عن الإطراء والغلوّ الّذي استمسك بسرابه المغرضون ، موشّحة ببعض مراثي شهداء آل البيت ، وهجاء مَن استحبّوا الكفر على الإيمان ، مدبّجة باستغاثات وتوسّلات حارّة بصاحب المقام المحمود صلى الله عليه وسلّم مِنْ ثِقَل الذنوب ، والفزع إليه في المصاب الأعظم ، والغوص في أعماق الذات الإنسانيّة وكدرها المستعصي ، والإستماتة في طلب نجدته والنزوع إليه ، والسّبيل هو الحبل المتين الرابط بينه وبين قلوب المؤمنين ، طائعين كانوا أو عاصين ، ألا وهو الحبّ .
ولعلّ معظمنا يذكر قصيدة كعب بن زهير الّتي قدّمها بين يديه اعتذاراً ، وطلباً للصفح عما بدر منه ما استوجب هدر دمه ، لكنه عفا عنه عفو الحليم القادر ، وجازاه ببردته التي لامَسَتْ جسده الشريف . هذه القصيدة الغراّء التي ردّدها الزمن بأسره ، كيف لا وفيها يقول :

نبئت أن رسول الله أوعدني        والعفو عند رسول الله مأمولُ 
إنّ الرّسول لنورٌ يستضاء به        مهند من سيوف الله مسلولُ

إن الهمزيّة قد اتسمت بنصرة الحقّ وذمّ الباطل ، وواجب على كلّ مسلم قادر أن يغار على دينه فيستعمل ما هو متاح له من الإمكانات ، ولو كلمة حق يباركها الله . وشاعرنا جعل من البيان سيفاً صارماً ، ومن المنطق مركباً ، وكانت له الأخبار النبويّة والحقائق الإلهيّة لجّة يمتطيها ليرتقي منبر الحق وينصره بالحق ، وكان التاريخ شاهد عدل ، وخير مفصح على خيبة من ضلّوا ، وأرادوا إطفاء نور الله بأفواههم الّذي أضاءه بقبس الفاتح الخاتم صلى الله عليه وسلّم .

إنتقاله إلى الشمائل المحمّديّة : صفات خُلقيّة ، مكارم الأخلاق .

الإستهلال بنداء المصطفى ، والبحث عن الخواطر المفضية إلى انفتاح أبواب التعلّق بوصفه ، وتمجيده ، وتوقيره ، وبيان فضله .

ذكر أول بزوغ فجر الحبيب وتوالي البشائر، ووصف ذلك الظرف بأبلغ لغة وشاعريّة محضة ، فكان التغني بليلة ويوم المولد ، وإيراد إرهاصاته كتداعي إيوان كسرى ، وخمود نار المجوس ، وغور عيون الفرس ، وكلّها آيات تدلّ على انقضاء عبادة الأوثان ، وإشراق فجر التوحيد بمولده صلى الله عليه وسلّم .

ذكر صفة مولده والمعجزات الّتي صاحبته ، ورضاعته وفصاله ، سيرته في صباه ، زواجه من السّيّدة خديجة رضي الله عنها .

ذكر البعثة وبدء الدّعوة مع المعجزات المؤيّدة ، وصبره على اضطهاد عشيرته له . ذكر الهجرة إلى المدينة وبعض أحداثها كاختفائه والصدّيق في الغار ، وقصّة سيّدنا سراقة ، وحماية الله لرسوله بالحمامة والعنكبوت ، ومدح الجنّ له .

ذكر حادثة الإسراء والمعراج باعتبارها المعجزة الكبرى بعد القرآن ، ثم أورد قصّة المستهزئين الخمسة الّذين آذوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم ودعوة الرّسول صلى الله عليه وسلّم وكيفيّة مصرعهم .

خبر الصحيفة الجائرة ، وفشل محاولات اغتياله : أبوجهل ـ حمالة الحطب ـ اليهوديّة .

العفو :
عفوه عن اليهوديّة ، وعفوه عن هوازن لشفاعة أخته من الرضاع الشّمّاء رضي الله عنها ، وعفوه عن بني قومه في فتح مكة « إذهبوا فأنتم الطلقاء » ، العفو ، الحلم ، الرحمة ، الحزم ، العزم ، الوقار، العصمة ، الحياء ، التقوى ، خوف الله ، حبّ المساكين وذوي الحاجة .

الصفات الخَلقيّة :
مبرّء من العيوب ، سلامة الأعضاء والحواس ، جمال الوجه مع غلبة الجلال عليه ( سُتر حسنه بالحسن ) ، أنوار وبهاء ، الشجة في جبينه زادته جمالاً ( كأنها الهلال في السماء الصّافية ) ، حسنه ونور وجهه وسكينته أذهبت البأساء من وجهه .

وصف كفه الشريفة :
أداة بطش على الملوك والجبابرة ، أداة نوال للفقراء ، بركتها تجلّت في : درّت شاة أم معبد بلمسها ، نبع منها الماء ، سحت بها الحجارة ، أثمر من بركتها نخل قرية سلمان رضي الله عنه ، مداواة الرمد ،أحيت المرملين ، أداة علاج : ردّ عين سيدنا قتادة رضي الله عنه .

وصف قدمه الشريفة : 
الإستشفاء بموطئها ، يلين تحتها الصخر فتؤثر فيه ، نال حظوة لمسها المسجد الحرام وبيت المقدس ، وَرَمَتْ من قيام الليل ، ودَمِيَتْ في الوغى ( قطب المحراب والحرب ) ، سكن بها حراء .

تحليل

قال في معرض حديثه عن الشمائل الغرّاء أنه السّيّد ذو السؤدد والعلا ، وشرف المكانة وعلوّ القدر، (ضحكه التبسم)، أيّ إذا ضحك صلى الله عليه وسلّم لا يضحك إلا تبسّماً ، وكذا الأنبياء والمرسلون لأنهم غرقى في حضرة القدس ، غلبت على قلوبهم هيبة الله ، فلا يقدرون أن يقهقهوا لأنه مخالف للأدب مع الله ، والتبسّم تهلل الوجه حبورا ، فيعرف من تقاسيمه الرّضى والطمأنينة ، فلا هو بالمقهقه الصّاخب اللاّهي ، ولا هو بالعبوس الوجوم ، ولذلك قيل في وصفه ( من رآه بديهة أحبّه ) .
( والمشي الهوينى ) : أيّ في سكينة وتواضع ، متصاغر لجلال الله ، وضدّها المتكبّر المختال ، فليس لاهياً بطيئاً ولا مختالاًّ فخورا ً، مصداقا لقوله تعالى :  وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ   (1)  ، ويقول ناعِتُهُ : ( كأنما ينحطّ من صبب ) .
أما نومه فالإغفاء : وهو عدم الإستغراق في النوم ، وهو النعاس الخفيف ، وضدّه الثقيل ، ولا يليق بالعظيم هذا الشيء وهو علامة الكسل والخمول والغفلة ، كما أنه علامة البطر والبطنة ، وكثرة الأكل والإشتغال بالدّنيا عن الآخرة .

التعجب من ضلال الكفار وبين أيديهم القرآن ينزل بالهدى ودين الحق ، ثم انطلق يصف كتاب الله بأنه أعجز الإنس والجن ، وتحدّاهم بأن يأتوا بمثله بل بآية ، أثره المتكرّر في نفوس التالين والمستمعين ، حلاوة الذكر ، وحسن الوقع على السّمع (الحُلي والحلواء ) ، رقة اللفظ ، ورقي المعنى وعذوبته ( كالخنساء حُسناً وزينةً ) ، العذوبة والرّقة ، يروي العطاش ( كالماء العذب الصّافي البارد ) ، صورة تشبيه المؤمنين ، وأقاويل الزور تشبه الكفار .

ذكر مثالب أهل الكتاب ، وفضح عنادهم ، وفساد عقائدهم وأفعالهم الشنيعة ، وأبرزها : قضيّة التثليث ، وقتل الأنبياء ، ومسألة البداء ، وندم الله تعالى على ذلك ، ودعوى صلب المسيح عليه الصّلاة والسّلام . وقد اعتمد منهج علماء الكلام في تفنيد مزاعمهم على قواعد المنطق والقرائن العقليّة ، وغير ذلك المسائل بسؤالات قد تطرأ على الأذهان نحو قولهم ( فإن قلت.. قلنا ) من ذلك قوله : ( أإله مركّبٌ ؟ ما سمعنا بإله لذاته أجزاء ؟) ، ( أهو الرّاكب الحمار ...) . وكان في ذلك يميل إلى أسلوب السّخرية من المفاهيم العرجاء ، والمزاعم الباطلة الّتي ما أنزل الله بها من سلطان ، ولعلّ أبرع وصف لهم قوله : ( وسفيه من ساءه المنّ والسلوى وأرضاه الفوم والقثاء ! ) مصداقاً لقوله تعالى على لسان نبيّه سيّدنا موسى عليه السّلام مستنكراً :  وإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نَّصْبِرَ عَلَىَ طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ   (2) 

الحديث عن زيارة الحبيب صلى الله عليه وسلّم

أراد الشاعر إنهاء موضوع أهل الكتاب وشأنهم ، بعد طرح قضاياهم ومناقشتها ، والخلوص إلى مبرأة الحبيب ، جعل يطريه ويصفه ويعظّمه ، والإكثار من ذكر المحبوب هو أمارة الولوع والشغف ، وتكرارُ إطرائه دليل عذوبة موقعه في النفس وجلال محلّه في القلب ، وطغيان هواه على المحبّ الهائم ، فأسبغ عليه من أجلّ النعوت وأحسنها ، كالعفو عند المقدرة ، والحلم ( كخبر عفوه على بني قومه في فتح مكة ) ، ثم فتح الباب إلى حديث القلب بالحنين إليه ومناجاته ، والشكوى إليه من تباريح الغرام ، ولا شفاء منه إلا اللقاء ، فذكر الرّاحلة الوجناء ، ورحلة الشوق وما يلقاه من عناء الطّريق والأماكن الّتي مرّ عليها من موطنه (مصر) إلى مكة المشرّفة ، ووصفه الرّائع لمرابع مكّة ، والدّيار هي ذكرى الحبيب كما قال الشاعر :

أمرّ على الدّيار ديار ليلى        أقبّل ذا الجدار وذا الجـدارا 
وما حبّ الدّيار ملكن قلبي        ولكنّ حبّ من سكن الدّيارا

وأدّى مناسك الحج وكأنه يستعجل الزمن ويستنهض الظرف ، ويحث المطيّة ويهذب الروح ويمني القلب الظامئ ، مع خوفه واضطرابه ووجله من ثقل الذنب ، وعظم الخطيئة ، وسقم الهفوة ، وكثرة النقص ، فكيف به وهو واقف بين يدي الكمال والطهر والجلال ، وقد ذكر التوجه إلى طيبة مثوى الحبيب بسرعة الشوق واللهفة ، والوقوف أمام سرّ الوجود ولبّ الحقائق ، وعين الرّحمة الرّبّانيّة ، والياقوتة الفريدة المتحققة ، ومفتاح باب النجاة والفرار إلى الله ، فها هو هذا الهائم الواله قد تحقق أعزّ مرغوب لديه وأثمن مأمول ، ألا وهو زيارة الحبيب الأعظم ، ومناجاته والشكوى إليه من صروف الدهر وأعظمها : بعدُهُ وقد دنا الرّحيلُ ، فما أحسن أن يغتنم فرصة قد لا تتاح ثانية ، فيقضي أوطاره ، ويروي ظمأ نفسه من معين حبيبه . وبعد انتهاء اللقاء الرّجوع والفراق والعيون لا تكاد تفارقه ، وكلّهم التفاتات إليه وانثناء شطر وجهته ، وسمحوا بمن يحبّون ، ولا غرو فإن البخيل قد يسمح بماله عند الضرورة .
لقد غادر الصّبّ محبوبه وهو يلهج بذكره ماثل شخصه في قلبه ، في ذهوله ، ومرارة فراقه ، ولا يملك نفسه إلا أن يناديه مستغيثاً متوسّلا مقسّما عليه بقضاء مآربه وحوائجه موضحاً أن هذا الصّنيع هو ثناء عليه ، لأن المدح هو إطلاق الوصف المستحق لمن يستحق ، والرّسول صلى الله عليه وسلّم هو أهل لتفريج الكربات وحلّ المشكلات ، والمحبّ له سبب موثق وميثاق من سيّده قوامه الإيمان والحبّ ، فلا يمكن بحال التخلّي عنه أو صدّه ولقد قال تعالى عنه :  لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ .   (3)  وقد أقسم عليه بالعلوم اللدنيّة والعطاءات الإلهيّة التي لا يعلم كنهها غيرُه ، ونصرة الله له بالرّعب مسيرة شهر ، وذكره آل بيته ، وبلاء سيّدنا عليّ رضي الله عنه يوم خيبر ، وريحانتيه وأمهما رضي الله عنهم ، والإفاضة في مدحهما وإبراز مكانتهما من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ، والتذكير بشهادتهما وهما سيّدا الشهداء عند الله ، والتذكير بالموقع الأليم ( كربلاء ) الذي أهاج المواجع والآلام فوجب الرّثاء ، وتخفيف المصاب ، وتفويض الأمور إلى العليّ القدير ، حتى شبّه نفسه بالخنساء التي شاع ذكرها في الرثاء وأصبح يذكر بها ، ورجا أن يكون في وصف سيّدنا حسّان بن ثابت رضي الله عنه في مدح النبي وآل بيته وصحابته ، وانطلق يمدحهم بما هم أهل له من سيادة الناس بالعدل والإخلاص والتقوى ، فكيف لا وهم تلاميذ رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، وحملة الدين والأمانة من بعده ؟ فبدأ بوصف سيّدنا أبي بكر رضي الله عنه أول المسلمين وأول الخلفاء الراشدين ، وسيّدنا عمر ، وسيدنا عثمان ، وسيّدنا علي رضي الله عنهم بما قدّموا لله لرسوله ولسائر أمته من روعة القيام بأمر الله ، واستبسالهم في أداء حقوقه ورعاية رعيّته لأنهم خيار خيار الأمّة ، وأردفهم بباقي العشرة المبشرين بالجنّة وأزواج النبيّ صلى الله عليه وسلّم ، وباقي التابعين من خير القرون .